محليمقالات خاصة

زياد الرحباني… والموت الذي كشف “خوارزمية” قلوبنا

كتب عمر بلح لقلم سياسي،

مات زياد الرحباني. فاهتزّت المنصّات، وارتفعت الرؤوس، وسالت الكلمات دموعًا إلكترونية.
كأنّ لبنان فقدَ ركنًا من أركانه، وكأنّنا أمام نبيّ الثقافة وأيقونة العصر التي لا تتكرّر.
لكن الحقيقة أبسط من كل هذا الضجيج: مات رجلٌ موهوب، ساخر، ساخط، لم يكن يومًا ملتزمًا بقضية شعب ولا نصيرًا للمظلومين، بل مثّل صوت جزء من الطبقة “المثقّفة” التي لا تتعب من جلد ذاتها والتندّر على خرابها، دون أن تُقدّم شيئًا سوى المزيد من التهكم.

وإنّ العتب هنا، لا على الميت، بل على الأحياء.
الذين فجّروا مشاعرهم في كل اتجاه، وانشغلوا بيوم وفاته عن ألف روح تُسفك في غزّة، وعن مأساةٍ باتت اعتيادية لأن خوارزمية فيسبوك لم تضعها في واجهة الشاشة.
ننتقي من الحزن ما يناسب راحتنا النفسية، ونتجاهل ما لا يناسب “خوارزمية المشاعر” التي تغذّيها المنصّات.
نبكي على “وجه نعرفه”، ونتجاهل دماء لا نعرفها ولا نراها.
نختار من نتعاطف معه، ومن ندفنه في صفحات النسيان، ونغرق في ترف المشاعر المؤقّتة.
هذا مجتمع لم يعد يقيس الأشياء بميزان الحق، بل بميزان الظهور، والشهرة، وسهولة التفاعل.

الخوارزميات لها دور، نعم. لكنها ليست من يكتب المنشورات، ولا من يتجاهل صور المجازر.
المجتمع هو من قرّر أن يكون موت فنانٍ أهمّ من دماء الأطفال.
وهو من رفع زياد إلى مصافّ القديسين، فقط لأنه قال ما يروق لأذواق “النخبة الساخرة”، وغنّى بأسلوب يشبه مزاج المقاهي.
وكأننا نحتاج إلى فنانٍ يموت، كي نحسّ أنّنا بشر، ولو عبر شاشة.

المشكلة ليست في زياد، بل في الناس الذين لا يملّون من التسطيح والتهويل.
جعلوا من موته لحظة وطنيّة، بينما الوطن يحتضر منذ عقود، ولم يُعلن الحداد على نفسه.
شعبٌ يصرخ حين يموت فنان، ويصمت حين يُذبح أخوه.
شعبٌ غارق في مستنقع الرمزية الفارغة، لا يعرف الفرق بين الحزن الحقيقي والبكاء المتداول.

ربما يصحو هذا الشعب ذات يوم، ويتحرّر من وهم التفاعل السطحي، ويتخلّص من قناع التمثيل العاطفي.
لكنني أشك.
فلطالما كان الاستسلام للزيف أسهل من مواجهة الحقيقة،
ولطالما كان الغرق في بحور الدموع المصنّعة أريح من حمل ألم الواقع.

وحتى ذلك الحين، سنظل ندور في حلقة مفرغة من الحزن المزيف،
نُحيي موتى طبيعيين… وننسى من قُتلوا بلا ذنب… سوى أنهم لم يُعرفوا.


iPublish Development - Top Development Company in Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى