سُنّة لبنان وحلم الوحدة مع سوريا

كتب نبيل شحادة لقلم سياسي،
منذ أكثرِ من قرن، لم يكن ما يُعرفُ اليومَ بـ “لبنان” و”سوريا” كيانين منفصلين، بل كانا امتدادًا جغرافيًا وديموغرافيًا وثقافيًا واحدًا ضمن اراضي السلطنةِ العثمانية. لم تكن هناك حدودٌ صارمة بين طرابلس وحمْص، ولا بين صيدا ودرعا. العائلات، الأسواق، الدين ، اللغة، وحتى المزاجُ العام، كان واحدًا حتى جاءت اتفاقية سايكس بيكو بخريطةٍ جديدة، فقسّمت المَنطِقةَ بالقلمِ والمِسطَرة، وأسّست دولاً لم تكنْ موجودةً في واقعِ الحال. ثم جاء الجنرال الفرنسي هنري غورو وأعلن من على درج قصر الصنوبر قيامَ دولةِ “لبنانِ الكبير”، ليُصبحَ سنّةُ لبنان، مواطنين في كيانٍ لم يطلبوه، ولا خطّطوا له، ولا كان لهم رأيٌ في نشأتِه، بل رفضه كثيرٌ منهم، وظلوا ينادون بالوحدةِ مع سوريا حتى منتصفِ القرن العشرين.
تأسس لبنانُ الكبير ، وبدأتِ المشاكلُ والأزماتُ بالظهور، لم يندمجْ السنّةُ اندماجًا كاملاً في الكيانِ اللبناني كما حصلَ مع غيرهِم، كانوا دائما يتوجسون من الآخرين الذين رحبوا بالمحتل الفرنسي واعتبروا أنفسَهم جزءاً من دولته. كانت فكرةُ الانتماءِ الوطني عند المسلمينَ السنّة تتصارعُ دائمًا مع سؤالِ الهويةِ الكبرى والأمّةِ المتراميةِ الأطراف: هل نحنُ لبنانيونَ بالمعنى القُطْري الضيق، أم نحن أبناءُ بلادِ الشام، أم نحنُ عربٌ بالمعنى القومي الكبير، أم مسلمونَ بالمعنى الحضاري الأشمل؟. تمر السنوات الطويلة و تبقى هذه الأسئلةٌ تائهة لا تجد طريقاً الى الحسْم.
ظلّت فكرةُ الوحدةِ مع سوريا كبديل عن الدولة الأقليمية الكبيرة حاضرةً في وجدانِهم، وأججّ ذلك الشعور ممارساتٌ سيئةُ في الحكْم ، وتفرقةٌ في الوظائفِ والدولةِ والتنمية والجيشِ من قبَلِ بعضِ اركانِ النظام اللبناني، وهذا كلُه ساهمَ في تعميقِ الانقسام والخوف من الصيغةِ الطائفية التي أسّسَ الفرنسيون عليها دولةَ لبنان.
وصولُ العلوي حافظ الأسد، الى سدةِ الرئاسةِ في سوريا، قضى على ما تبقى من هذا الحُلْم. ومع اندلاعِ الحربِ اللبنانية في سنة 1975، دخلَ الجيشُ السوري إلى لبنان. لم يحْمِلْ مَعَهُ مشروعَ وحْدةٍ أو عدالةٍ أو شراكة، بل جاءَ ليفرِضَ وصايةً ثقيلةً على جميعِ اللبنانيين، ورافق هذا الوجود أذرعٌ أمنية، اعتمدت على سياسةِ الاعتقالات والاغتيالات السياسية، الى جانبِ انحيازٍ فاضحٍ لطرفٍ على حسابِ آخر، وفي كثيرِ من الآحيان، كان التلاعبِ بالجميع سيّد المواقف من اجل البقاءِ في لبنان واستمرارِ السيطرةِ عليه وشفط واستنزافِ خيراتهِ ومواردِه.
اغتيالُ الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، حوّل سوريا – على الأقل بالنسبة لسنّةِ لبنان – من “شقيقةٍ كبرى” إلى “قوةِ احتلال”، وانقلبت نَظْرتُهم جذريًا، حتى أصبح شعارُهم الأبرز هو “لبنان أولاً”، أي أن السيادةُ الوطنية أصبحت لديهم أهمَّ من أي امتدادٍ عربي وحلْمٍ وحدوي، وتأزمّت الأمورُ مع اتهامِ حزبِ الله باغتيال الرئيس الحريري، وما تبِعَهُ من عملياتٍ عسكريةٍ ضدَ العاصمة بيروت وأهلَها السُنّة، وممارسات سياسية شائنة، فظهرَ شعورٌ عارمٌ بوجود مشروعٍ طائفيٍ اقليمي ومحلّي، يريدُ تحطيم ارادةِ المسلمينَ السنّة وتهميشِ دورهم ووجودهِم، وابعادهِم قسرياً عن دائرةِ القرار.
التاريخُ لا يتوقّف، ومع حركته المستمرة تحصلُ المتغيرات؛ سوريا التي حكمَها حافظُ الأسد بالحديدِ والنار، ثم تبعه ابنه بشار بنفس الطريقة والنهج، وهو الذي عمل على افشالَ الثورةِ الشعبية بالإعتقالات وارتكابِ المجازرِ وإلقاءِ البراميلِ المتفجرة على المدن والقرى والبلدات، تغيّرت في أيام وساعات. سقط نظامُ الأسد وانتهى عهدُ البعثِ، وسقطت القبضةُ العلويةُ التي سيطرت على الدولةِ والجيشِ والأمنِ والاقتصادِ. سوريا الجديدة تولدت من بين الركام. اصبح لها رئيسٌ مسلمٌ سُنّي، وحكومةٌ ذاتُ غالبيةٍ سُنّية .
ومع التغييرِ الكبير، تهاوى النفوذُ الإيراني وانكفأ إلى خارجِ الحدود، وبدأت سوريا تستعيدُ هويتَها الحقيقية، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وترمّمُ علاقاتِها العربية والدولية وتُصْلِحُ ما عمِلَ السابقون وحلفاؤهم على افسادهُ على مرِّ عقودٍ من الزمن.
في هذا المشهد، بدأت الأسئلةُ تطفو مجددًا لدى بعض أوساطِ السنّةِ في لبنان، الذين يعيشون اليوم فراغًا سياسيًا حادًا؛ فهم بلا قيادةٍ موحّدَة، ولا مشروعٍ جامع، ولا دعمٍ إقليميٍ كما في السابق.
اسئلةٌ تجول في وجدانِ سنّةِ لبنان وهم يعانون من فقدانِ الزعامةِ في بلدٍ يقومُ على الاشخاصِ والاحزاب، في ظلِّ انهيارٍ كبير ومؤسسات عاجزة، وخدماتٍ أساسيةٍ معدومة، وتعيش المناطقُ السنّية بسبب عواملَ سياسيةٍ وعُقَدِ كراهية تهميشا واهمالاً لا مثيلَ له. وفي المقابل، تظهرُ سوريا دولةً في طوْر التشكّل والريادة وتسلك بقوة طريق السلام والازدهار، بقيادةٍ وحكومةٍ تشبهَهُم دينيا واجتماعياً وتاريخيا, فيدفعُ بهم ذلك، الى التساؤل مجدداً: ماذا لو طرابلس وعكار كانتا أقرب اقتصاديًا إلى حمص؟ وماذا لو كانت مصالحُ صيدا والبقاعِ الغربي تُلبّى من دمشق لا من غيرها؟ وحتى بيروتُ تسأل: ماذا جنّتْ هذه المدينة الصابرة خلالَ مئةِ عامٍ تحت رايةِ الجمهورية اللبنانية؟
في النهاية، ما كان يومًا حُلْمًا قديمًا أي “الوحدة مع سوريا” – ربما يعودُ اليوم لا كحالة وجدانية أو رومانسية، بل كخيارٍ واقعي أمام فئةٍ باتت تشْعرُ أنها مهمّشة أكثر من اللازم في كيان فوضوي تحكمه الصراعات والأزمات المتواصلة. كيانٌ لم يعُد يمنحُ سُنّةَ لبنان لا أمانًا ولا كرامةً ولا مستقبلًا. سوريا تغيّرت وعادت الى اصولها. فهل تتغيّر بُوصِلةُ السنّةِ في لبنان أيضًا؟